"حظاّ طيّباً ليو غراند"...في رحلة الجِنس بعد سنّ الستين
الظرف الاجتماعي والثقافي، عطفاً على انتشار المدّ النسوي في أنحاء العالم تقريباً؛ جعل الصناعة السمعية والبصرية تضع آلياتها في خدمة مسلسلات وأفلام، سواء كانت روائية أو وثائقية، بحبكات تدور حول نضالات النساء المختلفة. تتراوح هذه النضالات من إضفاء الشرعية على حقوق الإجهاض إلى المطالبة بالمناهضة الحازمة ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي، فضلاً عن البحث عن المساواة في العمل والأجر، وعلاقة النساء بأجسادهن وتحريرها من المحرّمات والوصايات.
فيلم "حظاّ طيّباً ليو غراند" للمخرجة الأسترالية صوفي هايد (45 عاماً) يعتبر جزءًا من هذا الاتجاه/الترند، بتبنّيه الموضوع الأخير ببراعة وبقلبٍ كبير ينحو صوب الفهم بدلاً من الحُكم.
الفيلم الذي تمتّع منذ أوائل العام الجاري بجولة مشهودة في المهرجانات الدولية، مثل "صاندانس" و"برلين" و"تريبيكا"، يلامس موضوعاً نادراً ما تعرضه السينما: الرغبات الجنسية للنساء بعد سن اليأس. بمزيج من الكوميديا والدراما يقارب ما تعانيه الكثير من النساء في مثل هذا العمر من الشعور بالخزي والذنب وعبء الاعتذار الأبدي عن توقهن لاختبار تجربة وحياة جنسية مُرضِية، ليخلص إلى أن التمتّع الحسّي ليس شيئاً ممنوعاً أو خاطئاً، بل حقاً أساسياً من حقوق الإنسان.
إذا كانت مشكلة معظم هذه المسلسلات والأفلام المندرجة داخل الاتجاه إياه هي خفض سقفها والتموضع المؤطَّر بحدود موقف أيديولوجي بعينه، في سبيل الإيضاح للمشاهدين "الآمنين" أنها متفقة مع خطاب تمكين المرأة وما يُفترض اشتراك هؤلاء المشاهدين معها فيه؛ فإن الفيلم الروائي الرابع للمخرجة الأسترالية يبني وجهة نظره (أو الحيز الذي يرى منه العالم ويستوعبه) بالطريقة نفسها التي يبني بها بطلا الفيلم ثقة متبادلة في ما بينهما: ببساطة وطبيعية، بالمراهنة على السيولة بدلاً من الإيحاءات والإسقاطات. كذلك بحقيقة أن البطلة نانسي (إيما طومسون، مثالية للغاية لدرجة أنها لا تبدو وكأنها تمثّل) وليو (داريل ماكورماك) يواجهان المُشاهد من دون خلفية سابقة أو معلومات، ولا شيء مشتركاً بينهما تقريباً، إذ يتعارض كل منهما مع الآخر من حيث العمر والأصول والخلفيات وبالطبع التجارب الجنسية.
نانسي أرملة وموظفة متقاعدة (كانت معلّمة دراسات دينية سابقة)، لديها ولدان شبّا عن الطوق منذ فترة، وخلال زواجها الممتد لـ31 عاماً لم تذهب حياتها الجنسية إلى أبعد من فراش زوجها، ودائماً في الوضعية نفسها من دون أن تصل إلى النشوة الجنسية، ولو مرة يتيمة، "لا معه ولا بمفردها". بعد كثير من التردد، تشجّعت واستعانت بخدمات عامل الجنس ليو غراند، وهو شاب إيرلندي ذو بشرة داكنة يتمتع بالذكاء والجاذبية والإغراء وينضح بالثقة في كل حركة يقوم بها. لكن ابتسامته الجذّابة تخفي ألم علاقته المنقطعة بأمه وعائلته الذين لا يعرفون شيئاً عن عمله، وهي حبكة فرعية لا تثمر تماماً في نصّ كاتي براند الذي يحاول من خلالها تظهير هشاشة وضعه الاجتماعي. تجتمع مصائر الإثنين عندما تستأجر نانسي خدمات ليو لقضاء وقت ممتع في غرفة فندقية حيث صوّر الفيلم بأكمله تقريباً (بسبب ظروف الجائحة).
تفعل ذلك، في البداية، من دون أن تعرف السبب حقاً، كما يتضح من الخجل الذي تستقبل به ضيفها. ضيف قادم من عالم مختلف تماماً، وهي بدورها ستكون فضولية ومتشوقة لفهمه. الفهم مصطلح أساسي في الفيلم، لأن المحادثات - المتراوحة من الأحاديث الصغيرة إلى أكثر العلاقات الحميمة صدقاً - تكشف عن صدام داخلي بين رغباتها ووصايات اجتماعية اتّبعتها بالحرف طوال حياتها لأسبابٍ يحاول كل من نانسي وليو والفيلم فهمهما بدلاً من الحكم عليها. نانسي ليست امرأة محافظة، لكنها وُلدت ونشأت وتعلَّمت في ظلّ نماذج مختلفة تماماً عن تلك التي تُفاجئها اليوم. نموذج ستُسقطه بدافع المتعة واكتشاف الذات والمصالحة مع جسدها، كما يتضح من مشهدٍ أخير تظلّ أصداؤه تتردد في البال بعد فترة طويلة من نزول التترات.
على المستوى الفني، ينجح الفيلم في اجتياز أكثر من مأزق متوقع. أولاً، هناك القيد المتمثل بطاقم التمثيل المقتصر على شخصين، وآخر مرتبط به ناتج من حقيقة أن هذين الشخصين يتواجدان في موقع واحد أغلب فترات الفيلم. يمكن أن يجد المشاهد نفسه أمام سينما مسرحية بفرضية استفزازية، وحوارات حادة، ونبرة عاطفية زاعقة، واثنين من الممثلين المتميزين لجعل الأمور تنبض بالحياة على خشبة المسرح. لكن لا، "حظاً طيباً ليو غراند" هو فيلم سينمائي خالص، بالرغم من القيود والحدود الواضحة، يحقّق سيولة وأناقة مدهشتين.
تُسرد اللقاءات الحميمة (سيكون هناك أكثر من واحد)، دائماً في الغرفة الفندقية، باعتدال ونبرة متأنية لأن التركيز هنا ليس على ما إذا كانت البطلة الخمسينية ستجرؤ على أداء موقف معيّن أو ممارسة الجنس الفموي، بقدر ما هو موجّه صوب كيفية انفتاح الإثنين على بعضهما: كيف ستتلاشى الحواجز تدريجياً، ثم يظهران جوانبهما الأضعف، ويعترفان بصدماتهما، وبؤسهما، وأيضاً خيالاتهما ورغباتهما.
بقليل من التجاوز، يمكن اعتبار الفيلم خلفاً معاصراً لأفلام من نوعية "امرأة جميلة" (1990، غاري مارشال) و"المتخرّج" (1967، مايك نيكولاس)، وهو مثلهما أيضاً ساذج نسبياً، وسنتمنتالي أحياناً، وإذا صحّ التعبير، تزداد قيمته بفضل أدائين تمثيليين استثنائيين. إيما تومسون (63 عاماً) تؤدي دورها بطبيعية تختزن خبرة السنين، رفقة العشريني داريل ماكورماك الذي بدوره يجسّد عامل جنس (يبدو أقرب لمُعالج نفسي) يخفي أشباحه وراء هيئته المطمئنة. مشاهدة تطوُّر هاتين الشخصيتين، بحواراتهما المزركشة بلمسة كوميدية رقيقة والجادة أغلب الوقت، متعة متدفقة ومثيرة ومُحرّرة.
هنا يكمن سحر الفيلم، وتحديداً في الاختلافات والتناقضات والفروق الدقيقة المتعددة (في بعض الأحيان يمكن أن يطفو الحنان على الشاشة، وفي أحيان أخرى يُطلق العنان للعدوانية)، لكن أيضاً في نقاط الاتصال والتواطؤ بين البطلين. وهذا السحر يسمح للفيلم بالذهاب أبعد من الخلاصات الممكن تخمينها في جزئه الأخير.
المصدر: المدن